Ultimate magazine theme for WordPress.

الخطاب الملكي يدعو بوضوح إلى ثورة هادئة في أسلوب التدبير العمومي

31
جاء الخطاب الملكي السامي، الذي وجهه جلالة الملك محمد السادس نصره الله، إلى أعضاء البرلمان بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة، في لحظة سياسية دقيقة، إذ تمثل السنة الأخيرة من الولاية التشريعية مرحلة تقييم حقيقي لمدى التزام الفاعلين السياسيين بروح المسؤولية الوطنية.
الخطاب تميز بعمقٍ استراتيجي، يجمع بين التوجيه السياسي، والتقويم المؤسساتي، والدعوة إلى نهج جديد في التنمية الترابية، قائم على الجدية، والتكامل، والمردودية.
أولاً: الجدية والمسؤولية كمنطلق للإصلاح
منذ مستهل الخطاب، شدّد جلالة الملك على ضرورة أن تكون السنة الأخيرة من عمر الولاية التشريعية سنة للعمل وليس للانتظار، مبرزًا أن المسؤولية الوطنية لا تقاس بمدة الانتداب، بل بمستوى الالتزام والعطاء.
وفي هذا الإطار، دعا الملك ممثلي الأمة إلى التحلي بروح الجدية والمسؤولية، من خلال استكمال البرامج والمشاريع المفتوحة، وتجاوز الممارسات التي تضعف الثقة في المؤسسات.
لقد كان هذا التوجيه بمثابة نداء أخلاقي وسياسي يذكّر بأن خدمة المواطن تقتضي نكران الذات والوفاء للأمانة، بعيدًا عن الحسابات الضيقة.
ثانياً: تكامل المشاريع الوطنية والاجتماعية
أكد جلالة الملك أن التنمية ليست مجموعة من البرامج المتفرقة، بل هي منظومة متكاملة تجمع بين الأبعاد الوطنية والاجتماعية والمجالية.
وقال بصراحة:
“لا ينبغي أن يكون هناك تناقض أو تنافس بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية.”
في هذه العبارة تتجلى رؤية ملكية شمولية تسعى إلى تحقيق توازن بين التنمية الاقتصادية المهيكلة والمشاريع الاجتماعية القريبة من المواطن، في إطار هدف واحد هو تحسين جودة الحياة في جميع ربوع الوطن.
ويُقرأ في هذا المقطع نقد ضمني لحالة تشتت الجهود العمومية وتعدد الاستراتيجيات القطاعية غير المنسقة، وهو ما يجعل الملك يؤكد على ضرورة الانسجام المؤسساتي والفعالية الترابية.
ثالثاً: تأطير المواطن.. مسؤولية مشتركة
من بين الرسائل البارزة في الخطاب الملكي تلك المتعلقة بضرورة تعزيز التواصل العمومي وتأطير المواطنين.
فالملك اعتبر أن مسؤولية شرح القرارات والقوانين، وتبسيطها، والتعريف بمكتسباتها، لا تقع على الحكومة وحدها، بل تشمل البرلمان، والأحزاب، والمنتخبين، والإعلام، والمجتمع المدني.
بهذا المعنى، فإن الخطاب يعيد الاعتبار لمفهوم المواطنة التشاركية، التي تجعل من المواطن شريكًا واعيًا في مسار الإصلاح، لا مجرد متلقٍ للقرارات.
رابعاً: العدالة المجالية والاجتماعية.. رهان المغرب الصاعد
يستعيد الخطاب الملكي المفهوم المحوري الذي طرحه جلالته في خطاب العرش الأخير، والمتمثل في “المغرب الصاعد”، باعتباره مشروعًا وطنيًا طويل المدى يتجاوز الحدود الزمنية للحكومات والبرلمانات.
في هذا السياق، أبرز جلالته أن العدالة الاجتماعية والمجالية ليست شعارًا عابرًا، بل توجّه استراتيجي دائم يجب أن يحكم جميع السياسات العمومية.
وأكد أن مستوى التنمية المحلية يشكّل “المرآة الصادقة لتقدم المغرب الصاعد والمتضامن”، داعيًا إلى تعبئة شاملة من أجل إنجاح التحول التنموي المنشود.
الخطاب هنا يعيد رسم معادلة واضحة:
لا تنمية بلا عدالة، ولا عدالة بلا نجاعة ومردودية، ولا نجاعة بلا تغيير في العقليات وأساليب التدبير.
خامساً: أولوية المناطق الهشة والمجالات الطبيعية
خصّ الملك بالذكر ثلاث قضايا أساسية ضمن أولويات المرحلة المقبلة:
المناطق الجبلية والواحات:
تمثل أكثر من 30% من التراب الوطني، لكنها لا تزال تعاني هشاشة تنموية مزمنة.
دعا الملك إلى بلورة سياسة عمومية مندمجة ومخصصة لهذه المناطق، تراعي خصوصياتها الثقافية والجغرافية، وتستثمر مؤهلاتها.
السواحل الوطنية:
حث جلالته على التفعيل الأمثل لقانون الساحل والمخطط الوطني للسواحل، بما يحقق توازنًا بين التنمية والحفاظ على البيئة، في أفق بناء اقتصاد بحري وطني منتج للثروة وفرص الشغل.
المراكز القروية الناشئة:
اعتبرها آلية ذكية لتقريب الخدمات من العالم القروي وتدبير التوسع الحضري، في إطار رؤية تهدف إلى تحقيق العدالة المجالية الحقيقية.
سادساً: التحول المنهجي وثقافة النتائج
الخطاب الملكي دعا بوضوح إلى ثورة هادئة في أسلوب التدبير العمومي، من خلال
اعتماد المعطيات الميدانية الدقيقة؛
توظيف التكنولوجيات الرقمية؛
محاربة الممارسات التي تهدر الوقت والمال العام؛
وإرساء ثقافة تقوم على قياس الأثر والنتائج لا على إنجاز الملفات الورقية.
وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن المرحلة المقبلة تتطلب نخبة تنفيذية أكثر كفاءة، وإدارة عمومية أكثر جرأة وشفافية.
سابعاً: البعد الأخلاقي والوطني في الختام
اختُتم الخطاب الملكي بنداء روحي وأخلاقي عميق، يستمد شرعيته من قوله تعالى:
“فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره.”
وهي خاتمة بليغة تربط العمل السياسي بالمحاسبة الأخلاقية والدينية، وتؤكد أن خدمة الوطن ليست امتيازًا بل مسؤولية، وأن الكرامة الوطنية لا تُبنى إلا على الإخلاص والصدق ونكران الذات.
إن الخطاب الملكي ليوم 10 أكتوبر 2025 ليس مجرد افتتاح للسنة التشريعية الأخيرة، بل هو خريطة طريق لإصلاح الدولة من الداخل، عبر ترسيخ الجدية، وتوحيد الجهود، وإعادة الاعتبار للمجالات المنسية، وتطوير أسلوب العمل العمومي نحو منطق النتائج والنجاعة.
بهذه الروح، يُعيد الملك محمد السادس توجيه البوصلة الوطنية نحو المغرب الصاعد، العادل، المتوازن، والموحد، حيث تتلاقى العدالة المجالية مع التنمية الاقتصادية في خدمة المواطن، لا العكس.
الحسين شهراوي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

التخطي إلى شريط الأدوات