Ultimate magazine theme for WordPress.

أوجاع موحى… صيام بلا نهاية

170
في أطراف قرية نائية بجبال الاطلس، حيث يُعاد إنتاج الألم يوميًا دون انقطاع، صار الفقر طقسًا ثابتًا، وأصبح شظف العيش ضيفًا لا يغادر البيوت. لم تعد معاناة موحى استثناءً، بل تحوّلت إلى قاعدة يومية، يتكرر مشهدها مع شروق الشمس ولا ينتهي مع غروبها.
الغلاء، الذي التهم كل شيء، جعل من كسب لقمة العيش معركة، ومن مجرد التفكير في شراء حاجيات بسيطة حلمًا مستحيلًا.
عند مدخل السوق الأسبوعي، وسط عاصفة من الغبار المتطاير، ينتظر موحى انتهاء الازدحام ليبدأ يومه الحقيقي. لم يعد يبحث عن اللحم، فقد نسي مذاقه منذ زمن، بل يفتّش بين ما خلّفه التجار والمتبضّعون عند نهاية السوق ، عن بقايا عظام ، و رؤوس دجاج ، عن أوراق خضر ذابلة وفتات خبز منسيّ….. ،
الى جانب السيدة عدجو ، التي فرض عليها الزمن القاسي نفس المصير، يتزاحمان على أكوام المخلفات، يجمعان كل ما يمكن أن يسدّ رمق أطفالهما الدين ينتظرون “تاسويقت” من حفنة من الحمص و الثمر و حلويات ( العب و كول) و( الماكانة) حلوى داءرية الشكل و كانها ساعة ….
الحياة هنا لا تتغير، والوجع صار روتينًا لا يقبل التفاوض. موحى، الذي يحلم بلقمة كريمة، لا يملك ما سيواجه به منتظرات الاسرة الصغيرة . يأتي رمضان في القرية، ويزداد الحديث عن الصيام وفضائله، لكن موحى لا ينتظر حلول الشهر الفضيل، فهو صائم طوال العام، صيامًا بلا نهاية، صيام الفقراء الذين لا يفطرون على تمر أو ماء، بل على فراغ معدتهم التي تحدث اصواتا توحي بشكوى احشاءه. يسيطر عليه هاجس رمضان، ليس خوفًا من العطش والجوع، فهما رفيقاه الدائمان، بل لأن الأسواق ترتفع و تلتهب أسعارها، حتى بقايا العظام والخضر و الفواكه الذابلة تصبح نادرة، وحتى التسول يصبح أكثر صعوبة.
وفي ظل هذا المعاناة المستبدة، و بنظرات تعاطف باردة، ينصحونهم بالصبر وكأن الجوع حالة عابرة، وكأن صبر الأيام الماضية لم يكن كافيًا. وفقيه المسجد، الذي لم يذق الجوع الحقيقي يومًا، لا يتوانى في إلقاء خطبه المعتادة، يذكّر أهل القرية، أن الله مع الصابرين، وأن الدنيا فانية، وأن الجنة ستكون موعدهم مع النعيم. يُقنعهم أن فقرهم قدر لا يجب التذمر منه، وأن هذا الابتلاء ليس سوى اختبار إلهي، وكأنهم خُلقوا ليعيشوا على هامش الحياة، بلا حق في العيش الكريم، بلا نصيب من الدنيا سوى المعاناة والرضوخ ، نصاءح تدكر موحى بتلك الوعود التي يتغنى بها تجار الأصوات الانتخابية.
ومع ذلك، حين يُغلق السوق أبوابه، ويعود موحى بخيبته الثقيلة إلى بيته، يعرف أن الصبر وحده لا يُطعم أطفاله، وأن القدر المحتوم الذي يتحدث عنه الفقيه الورع لم يكن ليصمد لحظة أمام صرخة جوع من طفل صغير. يعلم أن الجنة وعد بعيد المنال و لن يتحقق حتى داخل قبره بالقرية، لكن شظف العيش حقيقة يومية ، تعيده في الغد إلى نفس الدوامة، حيث لا يتغير شيء سوى زيادة الأوجاع، بلا نهاية. ما هي إلا أيام قليلة حتى بدأت حركة غير عادية في القرية. تغيرت الأجواء، وبدت علامات الاستعداد لشيء قادم، شيء لم يكن موحى بحاجة إلى كثير من الفطنة لفهمه. حتى خطبة الجمعة لم تكن كعادتها، رغم أنه، ككل أهل القرية، لم يكن يفهم منها سوى الأذان، وكلمة “آمين”، و”الحمد لله رب العالمين” ” ان شاء الله “. كانت تُتلى بلغة لا تمت بصلة إلى لغة القرية، بلغة لم تتغير طيلة السنوات الأربع التي قضاها الفقيه بينهم، رجل وقور ومحترم، لكن كلماته كانت بالنسبة لموحى وأهل قريته مجرد أصوات مبهمة، خطب تُلقى دون أن تجد طريقها إلى قلوب الناس، لا لضعف الإيمان، ولكن لأن الفقيه يتحدث بلغة بعيدة عن واقعهم.
وفي تلك اللحظات، وسط صمت الحضور في المسجد، أدرك موحى أن هذه الحركة غير العادية لم تكن سوى تمهيد لشيء مألوف، شيء يتكرر كل بضع سنوات… لقد حان موعد الانتخابات! لقد حان موعد الانتخابات… و النفاق …
في صباح يوم السبت، حلّ بالقرية رجل بلباس أنيق و اثر النعم بارزة على محياه ، تفوح منه رائحة العطور الفاخرة، يمتطي سيارة فارهة لامعة، تتوسط طابورًا من السيارات التي أثارت زوبعة من الغبار على الطريق الوعرة. كان المشهد يوحي بأن القرية تستقبل شخصية مهمة، وربما منقذًا طال انتظاره.
لم يكن هذا الرجل غريبًا، إنه المرشح … ذلك الذي يظهر كل بضع سنوات، محاطًا بالمصفقين والمجاملين، متحدثًا بلغة الوعد والبشرى، مشيرًا بيديه في كل اتجاه، وكأنه يوزع الخير بلمسة واحدة. خرج الناس من بيوتهم المتهالكة، بعضهم بدافع الفضول، وآخرون أملًا في شيء يقيهم قسوة الأيام، بينما وقف موحى في زاوية بعيدة، يتأمل المشهد بعين المتوجس، عين من خبرَ اللعبة وعرف أن المسرحية نفسها تعاد كل مرة، فقط بوجوه مختلفة.
بدا المرشح رجلاً متواضعًا إلى حد غير مسبوق، يدخل بيوت أهل القرية المتهالكة، يجلس بينهم على حصير قديم، يشاركهم خبزهم اليابس، محاصر بدخان مواقدهم البسيطة التي تشتعل بالحطب أو ببقايا الكلأ الجاف ، يبتسم لهم بحميمية، يسأل عن أحوالهم، يربت على أكتاف الشيوخ، ويمسح على رؤوس الأطفال بلمسة أبوية زائفة، كأنه واحد منهم، كأنه لم يأتِ إلا ليحمل عنهم بعضًا من أوجاعهم.
وفي تحركاته، كان يجوب القرية بسيارته الفارهة ذات الدفع الرباعي، تتبعها سلسلة طويلة من السيارات المصفحة التي تشبه موكبًا رسميًا أكثر من كونها حملة انتخابية. قد تستهلك سياراته وحدها من الوقود ما يكفي لإطعام أهل القرية جميعًا لعام كامل، لكنه لم يكن يرى في ذلك إسرافًا، بل استثمارًا في كسب الولاء. كان يوزع الطعام بسخاء، أكياس الدقيق، قطع السكر، و اوراقا نقدية ، و بعضا من الأدوية المهدءة “دوليبران، اسبرو وغيرها ” و يعد بعض مرضى القرية بتكفله باقتناء وصفات الطبيبة و البعض الاخر باعدار اطفالهم …، وكأنه يتصدق عليهم من خيرات السماء،
بينما كانت الحقيقة أنه يستثمر في جوعهم و اوجاعهم ليحصد أصواتهم عند حلول يوم الحسم.
أما الفقيه، فقد كان يؤدي دوره المعتاد، يجلس إلى جوار المرشح، يتلو آيات بينات من الدكر الحكيم بصوت رخيم، يمدح فيها الصبر، ويؤكد أن الفقر ليس إلا ابتلاءً من الله، وأن الجزاء العظيم ينتظر من يصبر ، لكن أهل القرية، الذين لم تكن اللغة العربية الفصحى جزءًا من حياتهم، لم يكونوا يفهمون شيئًا مما يُتلى عليهم، سوى كلمات مألوفة يرددونها في خشوع: “آمين” و”الحمد لله رب العالمين”. كان كل شيء يوحي بأن الأمر مبارك، وكأن هذه الحملة الانتخابية ليست مجرد سباق على السلطة، بل عمل خيري خالص لوجه الله.
وعندما ينتهي يوم الحملة، كانت السيارات الفاخرة تغادر القرية محملة بالغبار، تاركةً خلفها وعودًا منسية، وأكياسا من الدقيق لن تدوم طويلًا.
كان موحى يراقب المشهد، يدرك أن المسرحية نفسها تتكرر كل دورة انتخابية، بنفس الحبكة ونفس الحيل. كان يعلم أن هذا السخاء العابر لن يغير شيئًا من بؤس قريته، وأن الدفء الذي يشعر به المرشح في بيوت الطين المتاكلة و الايلة للسقوط دات نوافد صغيرة و ابواب شابت و تشققت اخشابها ، لن يمنحه قناعة بأن عليهم حقًا أن يعيشوا بكرامة، وليس كمتسولين في موسم الانتخابات.
وفي النهاية، كما في كل مرة، ستُفرَز الأصوات، وسيُسرَق صوت موحى ضمن آلاف الأصوات التي لن تعود لأصحابها. سيرحل المرشح إلى المدينة، حيث لن يعود بحاجة إلى مناداة موحى بـ”سيدي موح”، و عدجو ، ب” لالة عدجو” وحينها فقط سيدرك موحى أن كل ما كان هنا لم يكن إلا فصلاً آخر من فصول الخداع. لكنه هذه المرة، لن يبيع صوته، لن يمد يده لأكياس الدقيق، ولن يسمح أن تُلعب حياته في هذه اللعبة القذرة مجددًا..
.سيصمد في قريته، حيث رأى النور، صامدًا، حتى تزف القرية بمولود يستحق أصواتهم، وهمومهم، و يشاركهم انشغالاتهم في ارض قريتهم و لغتها عملاً بالمثل الأمازيغي الخالد: ” اوردا يكرز اشال ندادس غاس ازكارن ن دادس”
“لا يحرث أرض دادس إلا أبقار دادس،
” اور داي اسبدا ايغرمان دي اخامن غاس تغراد ، د واشال ديزران نتمازيرت “
ولا تُبنى الديار إلا بسواعد وأحجار و تراب البلاد.”…
الحسين شهراوي .مراكش يوم الثلاثاء 11 فبراير 2025

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

التخطي إلى شريط الأدوات