Ultimate magazine theme for WordPress.

المصطفى بلقطيبية: صوت الذاكرة الحرة، وضمير الصحافة المغربية المتجذّرة في الأرض والكرامة

157
في دروب الصحافة المغربية، نادرةٌ هي الأسماء التي كتبت حضورها بالحبر النقي والوفاء العميق للرسالة، لا بالصخب ولا بالتسلق ولا بالمساومات ومن بين هؤلاء، يسطع اسم المصطفى بلقطيبية كأحد الأعمدة المهنية التي شقّت طريقها بثبات وسط صخب التحولات، رافعًا راية الكلمة الحرة والموقف النزيه.
بلقطيبية ليس فقط شاهدًا على مرحلة حاسمة من تاريخ المغرب المعاصر، بل فاعل أصيل فيها.
انطلقت رحلته من قلب تجربة الصحافة الفرانكوفونية بالمغرب، داخل ردهات La Vigie Marocaine وLe Petit Marocain، حيث تشرب أخلاقيات المهنة في زمن كانت فيه الصحافة مدرسةً للانضباط، والجرأة، والعمق، لا مجرد وسيلة للارتزاق أو الاستعراض.
في السبعينات، حين كانت الموجات الإيديولوجية تتقاذف الإعلاميين، ظل بلقطيبية وفيًّا لاختياره المهني، رافضًا الانخراط في أي تيار يستثمر في الخطاب الشعبوي أو القومي لم يرَ في السياسة سوقًا للفرص، بل فضّل شرف المهنة على امتيازات المناصب ولذلك، حين كانت الطريق ممهدة للركوب على موجة الريع السياسي اختار أن يبقى وفياً لروحه، منخرطًا في الدفاع عن القيم المحلية الأصيلة، عن إنسان هذه الأرض، وتاريخها العميق، وموروثها المقاوم.
في الثمانينات، أسّس صحيفة “الوحدة”، أول جريدة مستقلة موجهة للشباب المغربي والعربي، ثم تبعتها تجارب جهوية رائدة مثل “صوت وادي الذهب” و*”أصداء السمارة”*، ليكون بذلك من أوائل الصحفيين الذين فهموا أن الجهوية الإعلامية ليست ترفًا، بل ضرورة لبناء توازن الخطاب الوطني من داخل الهامش، لا من برجه المركزي.
لقد واكب مسيرة الدولة المغربية من زمن الراحل الحسن الثاني، وشارك في ملحمة المسيرة الخضراء، وكان حاضرًا في كل التحولات الكبرى، لا كمرافق عابر، بل كعين يقظة تُوثّق، وتُحلل، وتنتقد بضمير المسؤولية.
ومع ذلك، لم يتورط في غواية التمجيد، بل ظلّ منسجمًا مع نَفَسه النقدي النبيل، مدافعًا عن الصحافة كقوة اقتراح وتنوير، لا كملحق تابع لأجندات الريع الحزبي.
من أبرز مواقف بلقطيبية، رفضه للانخراط في كل ما من شأنه أن يُمس باستقلالية المهنة.
لقد عُرضت عليه فرص كثيرة لاستغلال موقعه الصحفي في مسارات سياسية أو تنظيمية، لكنه رفض، إيمانًا منه بأن الكلمة الحرة لا تُشترى، وبأن الصحفي لا يليق به أن يلبس عباءة السياسي المصلحي.
واليوم، في زمن تتهاوى فيه بعض القيم المهنية، وتغيب البوصلة عن عدد من الأصوات الإعلامية، يظل المصطفى بلقطيبية شاهدًا على جيل أصيل من الصحفيين الذين لم تستلبهم الشعارات المعلبة، بل ظلوا أبناء الأرض، أبناء المهنة، وأبناء الموقف.
بلقطيبية ليس فقط صحفيًا، بل ذاكرة حية، وشاهد مرحلة، وأحد بناة الوعي الإعلامي بالجنوب المغربي، خصوصًا من خلال إسهاماته في تأريخ التحولات بالصحراء، ومرافقته الذكية لحركية التنمية والتحديث في الأقاليم الجنوبية.
ختامًا، فإننا حين نُكرم هذا الاسم، لا نُكرم شخصًا فحسب، بل نكرم جُيلًا من القيم المهنية التي أسس لها، واستحق بها أن يكون قدوةً لمن لا يزالون يؤمنون بأن الصحافة ضمير الأمة، لا دفتر شيكات، وأن الكلمة مسؤولية ثقيلة لا يُحتمل عبؤها إلا من تربى على معنى الكرامة، والوفاء، والاستقلالية.
فكل التحية لهذا الإعلامي النبيل، حامل مشعل الكلمة الحرة، الصامد في وجه الزمن الرديء، والذي اختار درب الشرف بدل دروب الشعارات السهلة والمواقع المصطنعة.
ونداؤنا الصادق إلى كل الجهات المسؤولة، الثقافية منها والرسمية، أن تلتفت لمثل هذه القامات الإعلامية الفذة، وتُكرمها في حياتها، وتستثمر في رصيدها الرمزي والمهني. فحماية الذاكرة تبدأ من تكريم الأحياء الذين صنعوها، والوفاء الحقيقي لا يُقاس بالبلاغات بعد الرحيل، بل بما يُنجز من اعتراف وتقدير وهم بيننا، ينيرون الطريق للأجيال القادمة.
الحسين شهراوي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

التخطي إلى شريط الأدوات